رأي

السفير رشاد فراج يكتب: وعد بلفور.. نبوءة إنجيلية

 

من يتأمل مسار الصهيونية منذ نشأتها يكتشف أنها لم تكن وليدة الفضاء اليهودي وحده، بل هي في حقيقتها ابن شرعي للصهيونية المسيحية الإنجيلية التي سبقتها بقرنين كاملين، ومهّدت لها الطريق وقدّمت لها الغطاء الفكري والديني قبل أن تتحول إلى مشروع سياسي يهودي ثم إلى دولة قائمة على أرض فلسطين. ولهذا فإن الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل اليوم لا يمكن تفسيره فقط بالمصالح الاستراتيجية أو نفوذ اللوبي اليهودي، بل بجذور دينية عميقة تمتد في الوعي المسيحي الإنجيلي.

ففي إنجلترا القرن السابع عشر برزت حركة بروتستانتية إنجيلية تقرأ النصوص التوراتية قراءة حرفية وترى أن عودة اليهود إلى فلسطين شرط لعودة المسيح. وقد نادى مفكرون وسياسيون بضرورة “إعادة” اليهود، ومن أبرزهم أوليفر كرومويل الذي فتح الباب لليهود للعودة إلى إنجلترا، على أمل أن يكون ذلك تمهيدًا لعودتهم الكبرى إلى أرض الميعاد. ومع القرن التاسع عشر تحوّلت هذه الفكرة إلى سياسة رسمية، فتحدث اللورد بالمرستون عن توطين اليهود في فلسطين، ورفع اللورد شافتسبري الشعار الشهير: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، قبل أن يستخدمه الصهاينة اليهود أنفسهم.

وحين عقد تيودور هرتزل المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 كان قد وجد الأرض ممهدة عبر قرنين من التهيئة المسيحية الإنجيلية. ورغم أنه كان علمانياً بعيداً عن التدين، فإن مشروعه وجد صدى في الغرب المسيحي الذي اعتبر قيام دولة لليهود في فلسطين تحقيقاً لنبوءة توراتية. ولم يكن وعد بلفور عام 1917 بعيداً عن هذه الخلفية، فقد كان آرثر بلفور نفسه إنجيلياً متشدداً يؤمن بأن عودة اليهود خطة إلهية لا مفر منها، فاختلطت العقيدة بالدبلوماسية وأصبحت السياسة البريطانية أداة بيد الصهيونية المسيحية.

ومع انتقال مركز القوة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ورثت واشنطن هذا الدور بجدارة. فاليوم يشكل الإنجيليون الأمريكيون ما يقارب ثلث الشعب، ويؤمن معظمهم بأن بقاء إسرائيل وازدهارها شرط لعودة المسيح. هؤلاء يشكلون قوة انتخابية ضخمة تضغط على الإدارات الأمريكية المتعاقبة وتجعل من الدعم المطلق لإسرائيل التزاماً راسخاً لا يتغير بتغير الرؤساء.

لقد أوضح المفكر عبد الوهاب المسيري أن إسرائيل ليست دولة قومية طبيعية، بل كيان وظيفي أوجده الغرب ليؤدي دوراً محدداً: تفتيت المنطقة، وحماية المصالح الاستراتيجية، وضمان السيطرة على الموارد. وما كان لهذا الكيان أن يستمر لولا اكتمال المعادلة بين الوظيفة الاستعمارية والغطاء الديني الإنجيلي.

وهكذا، فإن إسرائيل بالنسبة للوعي الإنجيلي الأمريكي ليست مجرد حليف سياسي، بل جزء من عقيدة و”قدر إلهي”، ولذلك يظل الدعم الأمريكي لها مطلقاً وغير قابل للمراجعة، مهما تبدلت الإدارات وتغيرت الظروف.

باحث في قضايا الفكر والسياسة الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!