السفير د. محمد عكاشة يكتب: السودان.. حرب بين شعب يدافع عن وجوده ومليشيا تهدده بالفناء

المقال تم نشره في مجلة الدبلوماسي الكينية باللغة الإنجليزية وقامت سفارة السودان في طهران بترجمته للغة العربية والفارسية وتم نشره في موقع (العالم نت) الإيراني المعروف.
————–
هناك إصرار على خرافة خطيرة في السرد الدولي عند توصيف الصراع المدمر في السودان، مفادها أن الحرب بين طرفين (متساويين). لماذا وصف حرب السودان بصراع بين طرفين متساويين غير أخلاقي ومشوِه للحقيقة؟
هذا التأطير ظل يتكرر باستمرار في بعض الدوائر الدولية والإقليمية وبعض التقارير الإعلامية، هذه الخرافة ليست فقط خاطئة، بل أيضاً غير عادلة علي نحو مزلزل، إذ أنها تنثر ضباباً كثيفاً حول الخطين الأخلاقي والقانوني بين جيش وطني يدافع عن الدولة والشعب، وبين مليشيا توجِج الحرب عليهما. لفهم حرب السودان يجب النظر في ما وراء الشعارات إلي المنطق، والأدلة والخبرات الحية لملايين المدنيين السودانيين .
في حين أن القوات المسلحة مؤسسة قائمة وفقاً للدستور وتحظي بالاعتراف الدولي وفقاً للقانون الدولي الذي يفوضها للقيام بمهام حفظ سيادة ووحدة السودان، فإن مليشيا الدعم السريع، في المقابل، ليست قوة وطنية أو قانونية، وإنما هي وجه تم تجميله بإعادة وسمها من مليشيا الجنجويد إلي مليشيا الدعم السريع مع الاحتفاظ بخصائصها الأصلية من أبرزها اعتقاد المليشيا في تفوقها العرقي ومسؤوليتها عن الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي والفظائع الواسعة التي ارتكبتها في دارفور منذ العام 2003 م بما في ذلك الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
استناداً لمفوضية تحقيق الأمم المتحدة في دارفور( 2005 م)، فإن مليشيا الجنجويد مسؤولة عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حق المجتمعات غير العربية، وبعد إعادة انتاجها في مسماها الجديد لم تتغير عقيدتها العنيفة القائمة علي سلوك الإبادة الجماعية، ولا حتي هيكلها التنظيمي، وإنما تمت إعادة تسميتها بقوات الدعم السريع، تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)
لسنوات ظل المجتمع الدولي يُدين الجنجويد علي ارتكاب جرائم القتل، الاغتصاب، حرق القرى والتهجير القسري، غير أنه، وللمفارقة، فإن العديد من أولئك الفاعلين الدوليين يغضون الطرف عنها الآن، مخاطرين بفقدان الذاكرة الأخلاقية عبر مساواة جيش السودان الوطني بمليشيا الإبادة الجماعية.
في أبريل 2023 م هدمت مليشيا الدعم السريع الإستقرار السياسي في السودان عبر محاربتها للدولة، حيث هاجمت المؤسسات الحكومية ، والمطارات، والمناطق السكنية في محاولة للاستيلاء علي الحكم عبر انقلاب تم التحضير له جيداً.
يُشبه وصف”طرفين متساويين” توصيف الشرطة وعصابة مسلحة تحاربها الشرطة لمخالفتها القانون ب “طرفي الصراع”، يفرز هذا الوصف معضلة قانونية وأخلاقية بمساواة من يدافع عن حكم القانون ويقوم بتطبيقه مع من ينتهكه ويجهد نفسه في تدميره. إن الشرعية موضوع يحدده القانون وليس الرأي والرأي الأخر.
إن اختبار الثقة الحقيقي يظهر في تحركات المواطنين بين مواقع القتال، في معظم أنحاء السودان فر الملايين من مناطق سيطرة مليشيا الدعم السريع باتجاه مناطق سيطرة القوات المسلحة أو إلي دول الجوار في بحثهم عن النجاة والسلامة.
ووفقاً للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فإن أكثر من 9 ملايين مواطن نزحوا منذ بداية الحرب، فر معظمهم من العنف، والنهب والسلب، والانتهاكات الجنسية التي ترتكبها المليشيا في دارفور، وكردفان، والجزيرة والخرطوم.
إن الشاهد المنطقي يقول لو كان الطرفان متساويان لوجدنا فرقة واختلافاً بين السكان، غير أن، هذا لم يكن الواقع، حيث يعكس هروب المواطنيين من مليشيا الدعم السريع ومناطقها، تصويتاً باستخدام أقدامهم لصالح القوات المسلحة باللجوء لمناطق سيطرتها التي يفرون إليها بحثاً عن المأوى والحماية.
يعكس سجل المليشيا وحشية ممنهجة وليس شرعية سياسية، فقد وثَق مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان جرائم المليشيا التي تتنوع من القتل علي نطاق واسع إلي التعذيب، والعنف الجنسي وغيرها، مما ارتكبه مقاتلي المليشيا في دارفور، وحذَر المكتب من أن هذه الجرائم ترقى لأن تكون جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
من جانبها وثَقت منظمة (هيومن رايتس وتش) مجازر عرقية في مدينة الجنينة بغرب السودان، حيث قامت المليشيا وحلفائها بذبح المدنيين من غير العرب، ودمَرت أحياء بأكملها حرقاً بالنيران.
كما أكَدت منظمة العفو الدولية استخدام المليشيا للاغتصاب على نحوٍ واسع، والخطف، والإختفاء القسري كسلاح حرب.
في الأثناء، تعقَبت لجنة خبراء القرار 1591 المعني بالعقوبات الأممية علي دارفور، واردات أسلحة و تدفقات مالية غير مشروعة، ساهمت في في استدامة عمليات المليشيا في إنتهاكٍ فاضحٍ للعقوبات الأممية، مما أسهم في إطالة أمد الحرب واستمرار معاناة السودانيين.
خلافاً لما تدَعيه المليشيا المتمردة، فإن هذه الممارسات والأفعال لا تعكس تصرفات حركة أو مجموعة تسعى للإصلاح والعدالة، وإنما تعكس جرائم مليشيا مرتزقة، يسوقها الجشع وتحركها دوافع الإستعلاء العرقي ومطامح سيطرة القبيلة الأنقى عرقاً، وتقودها الرعاية التي تقدمها الدول الأجنبية التي تؤازر المليشيا دعماً بالسلاح والعتاد والغطاء الدولي.
لم تبدأ القوات المسلحة السودانية الحرب، فقد بدأت الحرب عندما شنت مليشيا الدعم السريع هجوماً منسقاً علي مؤسسات الدولة، ونهب الأصول العامة، والاستيلاء علي المطارات واحتلال منازل المواطنين، كما شهد الجميع في مدن العاصمة الخرطوم الثلاثة وغيرها. وقد أشار تقرير 700 ) بأن مليشيا الدعم السريع / الأمين العام للأمم المتحدة لمجلس الأمن بالرقم (س/ 2023 بدأت الحرب في 15 أبريل 2025 م بمهاجمتها للمنشآت العسكرية والأحياء المدنية.
تنص الفقرة 51 من ميثاق الأمم المتحدة علي أن لكل دولة ذات سيادة الحق ولها واجب الدفاع عن نفسها من التمرد الداخلي، السودان ليس استثناءاً حتى تتم إدانة القوات المسلحة لدفاعها عن الشعب مما يشكل انكاراً لحق السودان في الوجود كدولة ذات سيادة.
بدعوى التوازن، تواصل بعض الأصوات الدولية في استخدام عبارة الطرفين، إلا أن الحياد المغلوط ليس عدالة، وإنما هو وببساطة، تواطؤ ضد العدالة. إن مساواة القوات المسلحة السودانية مع مليشيا متهمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية أمر متهور من ناحية استراتيجية، كما لا يمكن الدفاع عنه أخلاقياً.
إن محاولة المساواة بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع عبر التكافؤ المضلل (الطرفين) يكافئ فقط المجرمين ويعاقب الضحايا ولا يقدم حلاً. ولا يمكن تصور بناء السلام عبر الخداع، يتطلب الوصول للسلام معرفة من الذي يدافع عن الشعب من الذي يقتله. إن حرب السودان ليست نزاعاً مسلحاً بين طرفين متساويين، إنما هي عن شعب يواجه هجوماً من مليشيا الإبادة الجماعية (الجنجويد) بوجهها الجديد (مليشيا الدعم السريع).
تُمثل القوات المسلحة استمرار الدولة والعَلَم والإرادة الجمعية للشعب في الدفاع عن وطنه، في مقابل مليشيا متمردة تمثل الطغيان، والتدخل الأجنبي والمعاناة بلا حدود. وبلا جدال فإن استخدام عبارة طرفين متساويين ليست من الدبلوماسية في شيء، إنما هي تجسيد للإنكار والتجاهل. يجب أن تكون الحقيقة أولاً قبل السلام لأن السلام من غير الحقيقة، ما هو إلا تكريس للظلم بل تقديس له.
وأخيراً السودان لا يحارب نفسه، السودان يقاتل من أجل البقاء.
* القائم بأعمال سفارة السودان بكينيا بالإنابة




